الجمعة، 15 مارس 2019

كتاب "نعم .. كنت أخدعك يا أمي" للشاعر مجدي عبدالرحيم: خالد جودة

سوناتا الأمومة والبنوة وحكي الحنين

كتاب "نعم .. كنت أخدعك يا أمي" للشاعر مجدي عبدالرحيم، من الكتب التي تشعر معها أنها قطعة من الحياة الموارة بالشجن والإنسانية العذبة.

التأسيس المنهجي للقراءة يرى سبر غور النصوص بملكة التفكير لتقديم الحجج الجمالية والفنية، للوصول إلي منتج "المعرفة"

طرافة الحدث الذي يعكس ذروة العطف والرعاية

كتاب "نعم .. كنت أخدعك يا أمي" للشاعر مجدي عبدالرحيم، من الكتب التي تشعر معها أنها قطعة من الحياة الموارة بالشجن والإنسانية العذبة، بداية من العتبة الموازية المرافقة بكلمة الغلاف الأخير بقلم ابنة الكاتب فاطمة الزهراء مجدي، تقول (بتصرف): "كتب أبي هذا الكتاب مرثية لأمه بعد رحليها، وها أنا أكتب كلمة لذات الكتاب لأرثيه بها. فما سر هذا الكتاب؟ (..) لا زلت أذكر كيف بدأ أبي في هذا الكتاب عقب وفاة جدتي مباشرة، كيف انشغل به ليلًا ونهارًا، كيف كان سلواه وطريقته الوحيدة لتحمل الحياة بدونها، وكيف ذبلت حياته بعد أن أنهي صفحاته". ثم بمفردات الغلاف الأصيل بصورة السيدة التي تفيض بالدعة والطيبة والسلام النفسي.
ثم يجد القارئ التصنيف الموصوف به النوع الأدبي للكتاب "سرد أدبي لسيرة ذاتية"، حيث يستند الحكي إلى أساس مرجعي بإبحار انتقائي في الذاكرة لسيرة حياة أمومة معطاءة، وبنوة مخلصة، يقول: "ما كتبته هنا لا علاقة له بالمذكرات نهائيًا، هي حكايات للحنين والفقد والشوق، تفجرت بداخلي عقب رحيل أمي الحبيبة، وذكريات مرحلة الطفولة، وأمي هي المكون والرافد الرئيس لها، والشاهد على كل الأحداث، كتبتها بمداد من القلب والروح".
ويذكرنا حكي السيرة الذاتية والمؤطر برحاب سيرة غيرية لعزيز راحل، بكتاب جميل آخر للدكتورة بنت الشاطئ (عائشة عبدالرحمن) والمعنون "على الجسر" عن سيرة حياتها مع زوجها الراحل، شيخ الأمناء أمين الخولي، والجسر في العنوان يعني أنها كائنة علي جانب من الجسر بين الحياة والموت، وسوف تعبر إليه، وقد اجتاز الشاعر مجدي عبدالرحيم الجسر سريعًا لتسكن روحه بجانب الأم الحبيبة، يصف بقوله عن حالة حزنه المستمرة، وأنه رغم يقينه بقدر الله تعالي، وأن "ثلاثية الميلاد والحياة والموت قدر معلوم ومصير محتوم": "لكني حزين لفراقها وخسارتي فادحة في البعد عنها، أكابد ذلك وحدي، أتجرع مرارة الرحيل يوميًا في صبر واحتساب، أحس بوحشة قاتلة تكاد تعصف بي". 

يجب مزج الذائقة بالإجراء النقدي، لإنتاج الأثر المنشود للقراءة الموفقة، ومن هذا المبدأ أعلن أني قد أحببت هذا الكتاب كثيرًا، وهو جدير أيضًا بمحبة القارئ

ثم عنوان الكتاب المثير، والمشوق للقارئ لما يضمه من مفارقة صادمة، لكن عند مطالعة الكتلة السردية المعنونة بذات عنوان الكتاب، نعي طرافة الحدث والذي يعكس ذروة العطف والرعاية، فيعدد مواقف الكاتب في الشفقه بالأم، منها أنها تصر على صيام شهر رمضان رغم ما تتعرض له من متاعب صحية: "أنا صايمة زي زيكم"، فيأخذ حذره في السنة التالية فلا يخبرها بقدوم الشهر الكريم، وتتناول الأسرة وجبة السحور بعيدًا عنها، ويكون موعد الغذاء ساعة المغرب، ويحتسون أكواب العرقسوس والتمر هندي والبلح باللبن في الخفاء، وأيضًا نصيحة طبيب العائلة –وهي نصيحة موفقة - بأثر الأدوية الخاطئة الخطير في صحة الأم في عمرها المتقدم، فلما تصر الأم على إحضار الطبيب فيقوم مرة بإحضار صديقه الصيدلي بجهاز الضغط، ومرة أحضر جاره مصطحبًا سماعات الووكمان الكبيرة، ثم قيامه بحجب أخبار وفاة الأقرباء والأعزاء عنها، حيث كانت تحزن بشدة عند سماع خبر وفاة أحدهم، وغير ذلك من مواقف طريفة تخبر عن عظيم حنان الابن بأمه.
والكتاب معزوفة رائقة بين الأمومة والبنوة، فهي سوناتا رائقة، والسوناتا كما جاء بمفهومها أنها أهم قوالب الموسيقي، تشتمل العرض والتفاعل، وإعادة العرض والختام، وأنها قطعة موسيقية يعزفها عنصران من أدوات الموسيقي "الكمان والبيانو" علي سبيل المثال. يقو: "أعرف يا أمي وأدرك جيدًا أنك فضلتيني على الجميع، واخترتِ طواعية أن تعيشي معى وأن تمنحينى بابًا يقودني (إن شاء الله) إلى رضا المولى عز وجل، وبدوري يا غالية لم أفرط فيك لحظة واحدة، جعلتك تاجًا فوق راسي أشرف بك دائمًا، أنا ابن تلك المرأة وافتخر".
ومن أهم ثيمات الكتاب الموضوعية - إضافة إلى تلك المعزوفة الشجية - هي تقديم خارطة طريق للحياة الطيبة، وهي في ذات الوقت إحدى منتجات هذه المعزوفة، لذلك كانت من سبل الحياة الطيبة رعاية الأبوين والإحسان إليهما: "فتطيب له الدنيا ويسعد في الآخرة برضوان الله". ويرى – وهي حقيقة - أن من أهم علامات طريق الحياة المبهجة، دعاء الأم، فسماه بالسحر العجيب، والترياق الناجع يقول: "لدعاء أمي (سحر عجيب) وباب مفتوح للسماء، والله ما دعت لي مرة إلا وأحسست براحة وسكينة تسري في جسدي، أدركت البركة في وجودها ورضاها، بعد رضا المولى عز وجل، والسعادة الحقيقية تكمن في برها وحسن رعايتها والسهر علي راحتها".
ويتحدث الكاتب عن تحرير مقاييس السعادة، يقول: "تعملت من أمي أشياء كثيرة، وأدركت أن مقاييس السعادة تختلف بين الناس، هناك من يرى السعادة في المال والمكانة والنفوذ، وهناك من يراها في راحة البال والسكينة والقناعة".
ويقول: "أدركت مبكرًا قيم التصالح مع النفس، وكيف تعيش بين البشر وأنت مستغن عما لديهم ولا تكون طامعًا فيما معهم أبدا، ولا تتكالب وتتطاحن على منافع زائلة، إن كنز الكنوز هو الستر وراحة البال، وأن يحفظ الله لك صحتك وصحة أحبابك وأهلك"، وقدم تلك المقاييس الموفقة شعرًا عطر به السيرة، عن الأمومة مورثة القيم النبيلة، حاضنة المجتمع من سوس الغضب، يقول: "فاكر .. / وأنت بترضع منها / إن الحب أساس الكون / وإن الناس من غير أحساس .. ، ماتبقاش ناس / وإن بيوتنا لكل جيرانا / وإن اللمة .. / بتونس دايمًا / - لقمة هنية تكفي مية - / آه ياما / على دي أيام / تتمرجح فيها / الأحلام". 

لمحات
رجعت إمتى ياواد؟

ومن هذا الإطار رصد بوعي تجريف الشخصية المصرية وإبدال قيمها النابهة من الشهامة والبطولة، كانت "زمان" كما يقول الكاتب: "كانت أيامًا جميلة وبريئة وصافية، جيرانك بسطاء تشعر بينهم ومعهم أن الدنيا ما زالت بخير، وأن قلوب الناس مفتوحة وممتلئة بالحب والعطاء والصدق والإخلاص والتجرد".
ويقدم علامات أخرى في تلك الخارطة تستحق الإحتفال، وتبحر من أفق مقولة رائعة من تراثنا الزاهر "يا بني الغريب من ليس له حبيب"، يقول: "حباني الله ببركة رضا أمي ودعائها بمجموعة طيبة من الأحباب أعتز بهم جدًا، وجودهم في حياتي تاج فوق رأسي، وعلامات مضيئة محفورة داخل وجداني، في حضورهم تأنس الروح وتحلو الصحبة (..) هم الروح والخلجات، أسماؤهم محفورة في القلب بمداد من النور والمحبة والمودة".
والتشغيل في الكتاب يحمل بصمة أسلوبية، تقوم علي حسن الترتيب، وصك العناوين الفرعية، والتجميع لشذرات منوعة لإحداث الأثر المنشود، فأراد الكاتب أن يجعل كتابه قاموسًا للحياة الغنية في صوبة أسرة مصرية صميمة، فضم إلى فقرات كتابه قطوفا من منجزه الشعري حول الأبوة والأمومة، ننتقي منها مقطع من قصيدة "قالت لى أمي"، شكلت المفردة العامية "يا واد" في نداء الأم للإطمئنان علي الابن، واقعية أفضت للمعنوي "بسمع صوت ملايكة"، يقول: "بسمع صوت ملايكه / بتعدى ف الأوضة / لحظة ما .. / أمي بتسأل / رجعت إمتى ياواد؟"
ولم يقتصر الإشباع الشعري بهذا الضخ المباشر، بل حفل الكتاب بقطع من نثر شعري بهيج، سهل الأسلوب، مثال قوله: "أكرمني الله عزّ وجل ومنحني قبسًا من نوره ونسائم من رحمته، ورزقني ملاكًا يفيض رقة ومحبة ورحمة، يغدقها علي جميع من حوله بلا تمييز، وكما يقول الصوفية من ذاق عرف، ومن عرف غرف، وأضيف: ومن غرف شكر. من ذاق حلاوة شهد ورحيق وعسل وطيبة الأم، وتمتع بنعيمها الوارف وتشبع من حنانها، أدرك جيدًا كم هو في نعيم مقيم، من تلمس رضاها وسمع دقات قلبها، وهي تدعو له ليل نهار بالصلاح والفلاح والنجاح والرزق الحلال ومحبة خلق الله"
كما قدمت السيرة لمحات من تأثير شخصية عامة كالشيخ الشعراوي، وأثره في الشعب المصري نقي الفطرة، يقول عنه: "ما يعجب أمي التي لا تعرف القراءة والكتابة في حلقات الشعراوي، بساطة الحديث، وسهولة التعبير ونقل المعلومات، للشعراوي أسلوب رائع يجذب المتلقي، ويصل إلى قلبه من أقصر طريق".
كما قدمت لمحات عن وسائل المواصلات والأماكن ومغامرات الطفولة والتي عايشها مواليد ستينيات القرن الماضي، مثال قوله: "ركبنا الأتوبيس من ميت عقبة للجيزة، ثم يقطع شارع الهرم بأكمله، الشارع في تلك الفترة شبه خال من البيوت وتكثر به مساحات الأراضي الزراعية بصورة كبيرة، نرى مشهد الأهرامات من بداية دخولنا لشارع الهرم"، وأمور أخرى طريفة مثال منادي عمارات الأوقاف أمام ناديي الزمالك والترسانة، الذي يمر صائحًا: "فلوس الإيجار" وأيضًا "شقق للإيجار"، حيث كان الأهالي حينها يرون من العيب الاجتماعي السكني بها، ثم الأطفال وهو يرشقون المنادي بالحجارة.
وختامًا إذا كان التأسيس المنهجي للقراءة يرى سبر غور النصوص بملكة التفكير لتقديم الحجج الجمالية والفنية، للوصول إلي منتج "المعرفة"، لكن أرى أنه يجب مزج الذائقة بالإجراء النقدي، لإنتاج الأثر المنشود للقراءة الموفقة، ومن هذا المبدأ أعلن أني قد أحببت هذا الكتاب كثيرًا، وهو جدير أيضًا بمحبة القارئ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رواية جريمة عالم للدكتورة أميمة خفاجي بين الخيال العلمي وأدب الجريمة

قرأت لك: رواية جريمة عالم للدكتورة أميمة خفاجي بين الخيال العلمي وأدب الجريمة 1. الحكاية: تحكي الرواية عن عالم في الهندسة الوراثي...