د/حسام الزمبيلي: نهاد شريف... زهرة الأوركيديا الحزينة

نهاد شريف ......زهرة الاوركيديا الحزينة

نهاد شريف زهرة الاوركيديا الحزينة

بقلم دكتور/ حسام الزمبيلى

التقيت بصديقي كاتب مسرح الخيال العلمي الأديب محمد على عبد الهادى في جنازة أديبنا الكبير الراحل نهاد شريف، وأهدانى مفتاحاً لبستان جميل خلاب، على هيئة قرص رقمي يحوى موسوعتَه لأدب الخيال العلمي. عدت للمنزل وأنا أحمل هذا المفتاح الثمين، أدخلت هذا المفتاح بحرص إلى مخدعه، ودلفت إلى ذلك البستانِ الساحر –بستانُ أدبِ الخيال العلمي- فإذا بلافتة تشيرُ (زهور ونباتات شرقية-الاتجاه يميناً)، و(للزهورِ الغربية - الاتجاه يساراً). كنت في الكثيرِ من أسفاري قد شاهدت واستنشقت من عبير تلك الزهور الغربية، فآثرت الاتجاه يميناً، ولدهشتي وجدتها عامرةً بمختلف أنواع الزهور الخلابة –على عكس ما توقعت- اتسعت عيناي و انتفخ صدري بالهواء، وكأنه يرتشفه لأول مرة، شعورٌ رائعٌ بالفخر يذكرني بذاك الشعور الذي انتابني يومَ 11 فبراير 2011 يوم انتصارِ ثورة الشعب المصري.

وفى ذلك الجانب الشرقي من هذا البستان، كنت أول ما لمحت وردةً بلديةً حمراء في قلبها صورةٌ لتوفيق الحكيم وفى أوراقها كُتبت رحلة إلى الغد ، والى جوارها شاهدت ياسمينتين بيضاوتين الاولى عليها صورةٌ ليوسف السباعى وفى أوراقها لمحت عبارة لست وحدك ، والثانية عليها صورةٌ ليوسف إدريس وفى أوراقها لمحت عبارة الجنس الثالث. سِرتُ خطواتِ قليلةً فشاهدت زُنبقةً سوداء تقبع وحيدة في ركنٍ خاص وفى قلبها صورة مصطفى محمود وفى طَياتها روايتا العنكبوت ورجل تحت الصفر. شاهدت خلال مسيرتي العديدَ من الأزهار في ذلك الجانب الشرقي والذى كنت أحسِبه مهجوراً، فهناك زهورٌ ليوسف عز الدين عيسى ومُحمد الحديدى وحُسين قدرى ورؤوف وصفى وراجي عنايت وهى مجموعةٌ من الزهور ذاتُ الزيوت العطرية الخلابة ، كلٌ منها بعطر مستقل ومذاقٍ أنفىٍ مختلف.

جلست أستريح، افترشت حشائش الأرض، أسندت ظهرى على جذع شجرةِ صفصافٍ وارفةٍ، أغمضت عينيّ، تسللت رائحة الزهور العطرية لأنفى ومعها تسللت الأفكار. أدب الخيال العلمي هذا المزيجُ الساحر من العلم والأدب أضاف لى كطبيبً سَعةَ الأفق ، والقدرةَ على التفكير من خارج الصندوق، فالأدبُ يضيف للعالمِ والطبيب الكثيرَ، فسَعة الافق و التفكير الابتكارى مطلوبان بشدة في تشخيص وعلاج الأمراض غير التقليدية وتلك المستعصية ، فكيف يمكن للطبيب أن يجابه المجهول من الأمراض ويتغلبَ عليها دون أن يتمتعَ بأفقٍ واسعٍ وخيالٍ خصب. أما كأديب فقد أضاف لى أدبُ الخيالِ العلمي الدقةَ و الإتقان والحبكة، فالحبكةُ الرِوائية والخطُ الزمني وتصميمُ البيئة المكانية والزمنية وتحليلُ الشخصيات كلها تحتاج إلى دقةٍ وإتقانٍ جنباً إلى جنب مع الخيالِ والإبداع.

أعجبنى تعريفُ الأستاذ يوسُف الشارونى لأدب الخيال العلمي على إنه نوعٌ من المصالحة بين الأدب والعلم اللذين يعتقد كثيرون أن هناك تعارضاً بينهما, وهو تعبيرٌ عن أحلام البشرية ومخاوفها من آثار التقدمِ العلمي. اعترض على هذا التعريف الزميل الناقد حماده هزاع فهو يرى أن العلمَ والأدب لم يكونا أبداً في حالة صراع حتى يحدث بينهما نوع من المصالحة. وأظن أن الحقيقة تكمن في أن هناك اتفاقً واختلافً بين وجهتي النظر. فكما يقول ستيفن كوفي إن هناك ما يسمى بانحراف أو تحرك النظرية (Paradigm Shift) وفيها ينظرُ الطرفان إلى نفس الموضوع من منظور مختلف، فيختلفان ولكنهما وفى الواقع كلاهما على صواب، فالاختلاف هنا ليس منطقياً ولكنه سيكولوجي. وفى هذه الحالة، استشعر الأستاذ يوسف الشارونى بحكمِ خبرته الطويلة نبضَ التيار الأدبى العام، فلمح إنكاراً يكاد يكون عاماً لهذا النوع من الأدب، استقر في وُجدانه على هيئة صراعٍ، وإن لم يكن معلناً. أما الأستاذ حمادة هزاع فلصغر سنه النسبي ولخلفيته العلمية القوية، فقد اعتمد معاييرَ علميةً بحتة في حكمه على هذا التعريف. وبقراءة هذا التحليل يتضحُ أنه في الواقع لا خلاف بين المنظورين لهذا الموضوع، وهذا يؤدى إلى حدوث تحرك النظرية عند القارئ من وجود رأيين متعارضين إلى وجود رأيين من منظورين مختلفين دون تعارض.

أدب الخيال العلمي البحت نهاد شريف ورؤوف وصفى وأدب الخيال العلمي الناعم وأدب الخيال العلمي للأطفال بواسطة سيد القماحى، ومسرح الخيال العلمي بواسطة محمد على عبد الهادي، وشعر الخيال العلمي بواسطة محمد محمد يوسف في كتاب اغواء الفراشة الالكترونية وأدب الخيال العلمي الطبى حسام الزمبيلى في رواية أول حوار مع فيروس عاقل. كلها عطور مختلفة ظلت تداعب أنفى في غفوتى وتنعكس على كيمياء مخي بأحلام زاهية.

ولعل من أهم روايات الشرق التى تحولت لأعمال درامية هى رواية نهاد شريف الملحمية (قاهر الزمن) والتي تحولت  لفيلم سنيمائى من بطولة جميل راتب ونور الشريف وكذلك ملحمتُه الأخرى (سكان العالم الثاني) والتي تحولت إلى عمل اذاعى لاقى شعبيةً نادرةً بالنسبة لهذا النوع من الأدب في عالمنا العربي.

يقول الروائي العظيم ويليام فوكنر إن الروائي يحتاج إلى خصائصَ ثلاث الخبرةُ والخيالُ والملاحظة وهى خصائصُ نلاحظها وبشدة في كتابات نهاد شريف، ففي روايته سكان العالم الثاني والتي تخطت 500 صفحة من القطع المتوسط، نجح نهاد شريف في رسم عالمٍ متماسكٍ متكاملٍ دقيقِ الملامح مستخدماً خيالاً جامحاً ، سار به عَبر الرواية دون تناقضٍ مخل مستغلاً خبرته الواسعة ودقة ملاحظته. مما خرج بالرواية في النهاية إلى بر الأمان.

ولعلني أغبط نهاد شريف على شجاعته في الكتابة في فرع من الأدب، وفي وقت لم يكن له مريدوه في عالمنا العربي، بل وتخطى ذلك إلى الشك في وجود هذا الصنف من الأدب في عالمنا العربي. هذه المقاومة من الفكر العربى أخّرت هذا الصنفَ من الأدبِ في بلادنا عقوداَ سبقنا بها العالم الغربي.

وفى المجال النقدى وضع دايفد الكسندر سميث قائمة لنقد وتقييم روايات أدب الخيال العلمى تشتمل على خمس عشرة نقطة تتضمنُ جوَ الرِواية وصناعةَ الادب وحكايةَ القصة و خلقَ كونِ الرواية وعمارتِه و الخيال والتماسك والفرضيات وقوتها و الشخصيات وحافزها ومصداقيتها وأخيراً تخطيطُ الرواية بما فيها من إثارة وإدارة اقتصاد، ويحاط كل ذلك بلغة جذابة دقيقة. وتعتبر رواية سكان العالم الثاني تطبيقاً عملياً ودرساً نقدياً لكتاب ونقاد أدب الخيال العلمي.

استفقت من غفوتى على لفحةِ هواءٍ باردة، فأدركت أن الشمس قد أوشكت على المغيب، قمتُ مسرعاً وقد شَعُرتُ أن هناك الكثيرَ في ذلك الركن الشرقي من بستان أدب الخيال العلمي لأشاهده، أمضيت نصف ساعة وأنا أتجول مسرعاً، بين تلك الزهور الرائعة من سوريا طالب عُمران و لينا الكيلانى ومن تونس الهادي ثابت ومن السودان ومن العراق ومن لبنان ومن غيرها من البلاد العربية.

كِدت أن أستديرَ وأنصرفَ، فإذا بيمامةٍ مغردةٍ، تطير فوق رأسي بإلحاح، ثم تتجه إلى ركنٍ معينٍ. تجاهلتها ولكنها أصرت وعادت بإلحاحٍ عجيب، شعرت بأنها تريدنى أن أتبعها. تبعتُها متردداً. سرت ورائها في جَنبات ذلك الجانب الشرقي من البستان. وفجأة ظهرت أمامي مجموعةٌ من نباتات الاوركيديا الخلابة، وهى تفترش ركناً خاصاً مميزاً، ويبدو أن هذا الركنَ قد كان مخفياً وكأنه رمزٌ للجندي المجهول. انتابتني مجموعةٌ مختلفةٌ من المشاعر في آن واحد شعور بالجمال، وشعور بالحزن و شعور بالرهبة و الغموض ومشاعرُ كثيرةٌ قد يعجزُ القلمُ عن التعبير عنها. تعجبت وتساءلت كيف يمكن للمرء أن يشعر بكل هذه الأحاسيسِ في آنٍ واحدٍ. وما سر هذا الركنِ الخاص؟!.

 اقتربت من زهرات الاوركيديا، فاذا بها تشكيلةٌ كبيرةٌ من الأشكالِ والألوان –فقد عُرفت الاوركيديا بأنها أقدم زهورِ الأرض وأكثرُها تنوعاً، وقد أسماها الصينيون -زهرة عطر الملوك-  تمعنت النظر فيها فإذا بصورةٍ محببةٍ إلىّ تطفو على تلك الزهيرات الجميلة الحزينة، هتفت نهاد شريف..يا الهى كيف لى أن اغادر هذا البستانَ دون أن أزورَ ركنَ نهاد شريف، شكراً يا يمامتى العزيزة.

كان ذلك الركنُ يتكون من سبعِ زهراتٍ في المنتصف تمثل روايات نهاد شريف .....نهاد شريف الماسات الزيتونية، نهاد شريف رقم 4 يأمركم، نهاد شريف سكان العالم الثاني، نهاد شريف آلة الزمن...

أحاطت بتلك المجموعة من الزهور مجموعةٌ أخرى تحمل صورةً لنهاد شريف مع جيل كامل من أدباء الخيال العلمي الذين تأثروا بفنه الجميل، ففيها شاهدت نهاد شريف صلاح معاطى ،..نهاد شريف حسام الزمبيلى،..نهاد شريف .نبيل فاروق،...نهاد شريف احمد خالد توفيق، .نهاد شريف .محمد على عبدالهادى،. نهاد شريف هو ملهمُ جيلٍ كاملٍ من أدباء هذا اللون من الأدب والذين أثروه بمؤلفاتٍ متنوعة من رواية وقصة قصيرة ومسرح وشعر أدب خيال علمى، نستطيع أن نصنف كتابات نهاد شريف على أنها خيال علمى بحت يتشابه معه صديقه الاستاذ رؤوف وصفى، أما أحمد خالد توفيق فقد كتب كثيراً في خيال علمى فنتازيا، وأما محمد على عبدالهادى وصلاح معاطى فقد كتبا في لون مسرح خيال علمى.

نهاد شريف لقد استحققتَ وبجدارةٍ لقبَ عميد أدب الخيال العلمي العربي، ففي خلال عشرات السنين خرج من عباءته عشراتُ الكُتاب المصريين والعرب الذين أثرَوا حياتنا الأدبية العربية بأنماطٍ مختلفةٍ من أدب الخيال العلمي، ولأول مرة في عالمنا العربى نستطيع أن نفخر بوجود أدبٍ ناضجٍ للخيال العلمى وقاعدةٍ عريضةٍ من الكتابِ والقراء.

في يوم 5 يناير 2011، فقدت مصرُ و الأمةُ العربية نهاد شريف. توفى نهاد شريف بعد صراع طويل مع المرض، عشرون يوماً فصلت نهاد شريف وثورة 25 يناير في مصر...ثورة الحرية والتحرر. عشرون يوماً فصلت بين قائد ثورة أدب الخيال العلمي في مصر وبين ثورةِ كلِ المصريين إلى الحرية.

نهاد شريف... يا زهرة الاوركيديا الحزينة، لقد حاربت من اجل حبك الوحيد، ولقد تم تجاهُلك، ولكنك صمدت............. ثم انتصرت.