الاثنين، 9 أكتوبر 2017

قصة من الخيال العلمي ...الرقص على رنين الموت



الرقص على رنين الموت

الشمس تلملم أشعتها الذهبية والفلاحون يعودون من حقولهم وقت أذان المغرب وهم يحملون أشياءهم على السيارات التي تجرها الحمير والبغال و يتحدثون عن المصيبة التي لحقت بهم و الحالة المزرية التي وصلوا إليها فالفئران تتلف كل شئ، تنتشر كالوباء تحصد وتفسد كل ما تصل إليه في البيوت والحقول، وتأكل الأخضر واليابس، جحورها الضخمة تملأ الحقول، لم يسلموا بعد من مصيبة الجراد التي أتلفت محصولهم في العام الماضي حتى وقعوا اليوم في مشكلة الفئران، اعتقد بعضهم أنه غضب من الله بسبب ما اقترفت يداهم من ذنوب، ولابد أن يستغفروا ربهم الله حتى يخلع عنهم هذا العذاب المقيم، فلا ينزل عذاب إلا بذنب و لا يرفع إلا بتوبة, ورد البعض الآخر أن التوبة مطلوبة في كل وقت، ولكن بجانبها لابد أن يبذلوا كل ما في وسعهم للقضاء على الفئران، ويجب أن يتعاونوا مع بعضهم البعض ومع المرشد الزراعي في المركز حتى يمكنهم التغلب عليها، لقد أحضر بعضهم القطط فوجدوها تسطو على ما في البيوت من مؤن و تهرب عندما ترى الفئران بهذا الحجم الكبير، نصبوا المصائد ووضعوا فيها الطعم، لتدخل الفئران فتأكل الطعم وتخرج آمنة، وضعوا لها السموم فسممت أولادهم، ونجت منها، وقسم آخر يرى أن اليهود وراء المشكلة، فهم الذين ربوا هذه الفئران غزيرة التوالد شديدة النهم للطعام، ثم أطلقوها على حدودنا الشرقية، فعارضهم الآخرين واتهموهم بأنهم يؤمنون بنظرية المؤامرة ويلقون دائماً باللائمة على إسرائيل وكأنها تملك القدرة على فعل أي شئ في أي وقت، وأكدوا أن مشاكلهم من صنع أيديهم وستنتهي لو واجهوها بالعمل الجاد، لقد نبتت تلك الفئران المتوحشة من قذارتنا ومن بيئتنا الملوثة، فما زلنا نرمي بالفضلات والقاذورات في الترعة، وأحياناً نلقي بجثث الحيوانات النافقة في الشوارع وعلى مفارق الطرق، وحتى لو كان اليهود هم سبب المشكلة فنحن الذين أعطيناهم الفرصة ليلعبوا في بلادنا ويفعلوا بنا ما يشاؤون، ساعدناهم بتصرفاتنا الخاطئة وبجهلنا الشديد وحماقتنا التي ليس لها حدود، وترى النساء أنها عين حسودة أصابت القرية، ولابد من تعليق ما يدفع الحسد مثل الخرزة الزرقاء أو العين أو رسم كف بالدم على بيوتهن، أو الذهاب إلى أحد الشيوخ الصالحين الذين يفكون السحر ويبطلون الأعمال، فرفض الرجال هذا الهراء، وأنكروا تلك الخرافات، ونهرنهن أن يذهبن إلى أفاق ودجال لن يقدم لهن شيئاً سوى الوهم، واتفق الرجال على الذهاب إلى العمدة ليجدوا معه حلاً للمشكلة، أليس هو المسئول عنهم، ويمكنه أن يتصل بالسلطات الحكومية، لماذا لا تعرفهم الحكومة إلا في المصائب عند تنفيذ حكم أو تحصيل غرامة وجمع ضرائب؟ وقال بعضهم لبعض: هيا بنا لنذهب للعمدة الآن، لنلحق به في هذا الوقت المبكر قبل أن ينام، إنه في داره، هيا .. هيا أسرعوا.
ذهب الفلاحون ونادوا على العمدة، فخرج إليهم بالجلباب المكوي والطاقية العالية، واستقبلهم وأحضر لهم الشاي وبينما يحكي أحدهم المشكلة للعمدة  قفز رجل إلى الأعلى عدة مرات صارخاً فأر كبير ... فأر كبير... بعد أن أسرع فأر ودخل بين رجليه وهو جالس معهم على الحصيرة، ضحك العمدة ومن معه إلى أن هدأ الرجل وعاد إلى جلسته ضاماً بين رجليه، فزاد ضحك الرجال وهم يشيرون إليه، فقال له العمدة : أتخاف من فأر يا رجل، كل هذا الرعب من فأر صغير أيها العملاق بالشارب الذي يقف عليه الصقر، فرد عليه الفلاح : إنه ليس مجرد فأر يا عمدة، إنه في حجم القطة، فاستغرق الجميع في الضحك مرة ثانية، وأخبرهم العمدة أنه يعرف بتلك المشكلة التي بدأت صغيرة وبأهمالنا كبرت وصارت عويصة يعاني منها الجميع، وأنه اجتمع بالأمس مع المسئولين في الصحة من أجل حل هذه المشكلة، واتفق معهم على البدء بتعقيم البيوت برشها بالمبيدات، ووضع السموم الخاصة بالفئران بالقرب من جحورها، ونصب المصائد لها في أماكن ظهورها، وسيرسلون أحد فرق المكافحة اليدوية لمهاجمة بيوت هذه الفئران في البيوت والحقول، وهدمها عليهم، ونصحونا بري الحقول الفارغة من الزراعة عدة مرات لتنظيفها من الأملاح وإغراق جحور الفئران بالمياة وحرثها عدة مرات لتسويتها وتدميرها عن آخرها، فردوا عليه بأنهم فعلوا كل ذلك بأنفسهم، فاشتروا سموم الفئران فلم تقترب منها، ووضعوا المصائد لها فتحاشتها، كما هدموا حجورها، ولكنها تصنع لها أكثر من باب، وعندما يغلقون أحدها تهرب من الأخرى، كل الحلول فشلت، فأخبرهم العمدة أنهم سيبعثون فرقة مقاومة جديدة للفئران تستخدم الأجهزة الكهربية، فتح الفلاحون فمهم من الدهشة وضحكوا في سخرية كيف يكون ذلك؟ هل يمسكون الفأر ويكهربونه ليعذبوه ويتعلم الأدب؟ وضحكوا  بصورة هستيرية، أكمل العمدة : أن هذه الأجهزة ترسل أمواجاً أو اشعاعات كهربية يقولون أنها تشبه موجات الراديو والتلفزيون تسبب إزعاجاً شديداً للفئران فتهرب من حقولنا، ودار في عقولهم السؤال الحائر: إلى أين تذهب ؟ عندما يصنعون تلك الموجات في بيتي مثلاً ستهرب الفئران إلى دار جاري، وعندما يرسلونها إلى دار جاري ربما تعود إلى بيتي، وإذا فرضنا أنها خرجت من قريتنا، فإنها سترحل إلى القرية المجاورة وعندما يضعون تلك الموجات في القرية المجاورة ستعود الفئران إلينا ومعها فئران تلك القرية، وبرغم عدم اقتناعهم بجدوى تلك الطريقة إلا أنهم سألوه : لماذا تهرب الفئران من تلك الموجات يا عمدة؟  فأجاب ابن العمدة المهندس الذي كان حاضراً معهم بأنه توجد شركات بالفعل لمكافحة معظم أنواع الحشرات، مثل الصراصير والناموس والنمل والفئران بالموجات الكهربية، فضحك الفلاحون .. إنهم يكهربون النمل والصراصير أيضاً، فقال لهم : إن الأجهزة الخاصة بالمقاومة تشع موجات عالية القدرة لا تسمعها إلا الفئران والحيوانات الصغيرة، وتزعجها فتهرب، فإن لم تجد وسيلة للهرب تضرب رأسها في الحائط حتى تموت، كأنهم يصيبونها بالجنون، انصرف الفلاحون وهم يضربون كفاً بكف من هذا الكلام الغريب، ستصبح الفئران في بلدنا مجنونة وتنتحر.
جلس ابن العمدة مع زملائه على أطراف القرية يتجاذبون أطراف الحديث، ويقضون أمسياتهم بجانب الحقول وربما يقومون بشي كيزان الذرة الخضراء على أعواد الحطب وشرب الشاي، كانت تلك الأمسيات فرصة لتلاقي الأصدقاء ومعرفة أخبار بعضهم البعض، وهناك التقى بأحد زملائه القدامى المشهود لهم بالعبقرية فسأله عن حاله وعن آخر الابتكارات التي يعمل عليها، فرد في تواضع أنه مجرد منفذ لبعض الدوائر الالكترونية البسيطة لا أكثر و لا أقل، فعرض أحد الشباب فكرة مفادها أن لدى بعض شباب القرية الخبرة في بعض المجالات، فلماذا لا ينقلونها إلى الشباب، عن طريق إنشاء نادي للعلوم في القرية يقوم بإجراء و تنفيذ بعض التجارب والمشاريع البسيطة التي تفتح عقول الشباب وتشغل فراغهم وتُشكل عقولهم، واستكمل حديثه بقوله : أنا مثلاً لدي بعض الخبرة في الفيزياء والكيمياء، والمهندس يمكنه تنفيذ الدوائر الالكترونية فلماذا لا يستفيد أبناء القرية من تلك الخبرة ، فرد عليه آخر بأنهم يأخذون تلك التجارب في مختبرات المدارس، وهم مشغولون بالدروس الخصوصية ومثقلون بالواجبات المدرسية، إنهم بحاجة إلى الترفيه وليس المزيد من الواجبات الدراسية، فقال آخر: لو اخترنا لهم تجارب شيقة ومفيدة كصنع الصابون والروائح منزلياً، أو توليد الكهرباء من الماء، ومن البطاطس والتفاح والبرتقال والليمون ومن طاقة الشمس، وصنع نماذج لمحركات بخارية، مثل تلك التجارب تعتبر ألعاباً في حد ذاتها، فاستحسن ابن العمدة الفكرة، ووعدهم بتخصيص المخزن الموجود بجوار الجمعية الزراعية لإقامة النادي وسيقنع والده بإعطائهم مصاريف شهرية لممارسة هذا النشاط.
بدأ نشاط النادي، وحاول المهندس جعله مفيداً لبيئته، فقال لطلابه : أدواتنا بسيطة ولكن عقولنا غنيه بالمعرفة، المشكلة التي تواجهنا اليوم في القرية مشكلة إنارة الشوارع عند انقطاع القدرة الكهربية، ومعنا اليوم مخططات الدوائر الالكترونية التي يمكن أن تخزن الكهرباء في بطاريات صغيرة من خطوط القدرة العمومية، وحين انقطاع الكهرباء تبدأ هذه الدوائر في إنارة المصابيح داخل شوارع وحواري القرية، فربما تكون أختك أو أمك راجعة في الليل وتنقطع الكهرباء فتصبح الشوارع مظلمة، فتسول لمن في قلبه مرض محاولة التحرش بها، والمخططات والدوائر التي سننفذها مجربة، كل ما سنفعله هو تنفيذها بعد معرفة كيف تقوم بعملها.
سأله أحدهم : أليس من الأجدى تخزين الكهرباء من الخلايا الشمسية مباشرة في النهار لتضئ في الليل دون الاعتماد على شبكة خطوط القوي الكهربية، فقال المهندس: هذا تفكير ممتاز، لأنك تعرف أن نضوب موارد الطاقة من المشاكل التي ستواجه العالم في السنوات القادمة، ولهذا يجب أن نعتمد على مصادر القدرة المتجددة كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح وطاقة الأمواج، ودائرة تخزين الكهرباء من الطاقة الشمسية موجودة في تلك الخريطة، علق المهندس الخريطة على الحائط وبدأ في شرح مراحلها، وأجاب عن تساؤلاتهم ثم أمرهم أن يقوموا بتنفيذها، على أن يتم اختبارها وتركيبها في الشوارع في الغد، قام الطلاب بعمل الدوائر وساعدهم المهندس بحل المشاكل التي اعترضتهم أثناء التنفيذ، ثم قاموا بتركيبها في الشوارع وتشغيلها وسط إعجاب وتقدير أهل القرية بأبنائهم، وعد المهندس الشباب بأنه في الأسبوع القادم سيقومون بتجميع دائرة الكترونية لمكافحة الفئران في القرية وأنه يتمنى منهم  البحث في هذا الموضوع مستعينين بشبكة الانترنت.
حاول المهندس أن يقوم بتجربة الدائرة بمفرده أولاً قبل تنفيذها الفعلي مع المتدربين لحل المشاكل المفاجئة حتى لا يفقد مصداقيتة العلمية أمام طلابه، كان هدف الدائرة المطلوبة هذه المرة طرد الفئران بواسطة إخراج صوت قوي له تردد عالي لا يسمعه سوى الحيوانات ذوات الأذن الصغيرة ولا يسمعها الإنسان.
ثبت المهندس القطع الالكترونية على لوحة التجارب حسب خريطة الدائرة، وأضاف إليها مفتاحاً صغيراً يمكنه من سماع الصوت أولاً في التردد المنخفض المسموع للأذن البشرية ثم يبدأ في رفعه تدريجياً حتى التردد الذي لا يسمعه سوى الحيوانات صغيرة الأذن مثل الفئران، وعندها فوجئ بمجموعة منها تأتي إليه على عجل من أماكن مختلفة، وتقف على رجليها الخلفيتين وتقفز نحو قدميه وكأنها تريد الوصول إليه، رفع المهندس قدميه بسرعة إلى أعلى ثم زاد من التردد فانطلقت الفئران مذعورة تجري على غير هدى لتصطدم ببعضها وبالأشياء التي تصادفها، قلل التردد مرة أخرى فعادت الفئران تجري سعيدة وهي تقفز حوله، فقلل التردد وبدأ يسمعه بأذنه فاختفت الفئران ولكن بصورة منظمة عادية ليس فيها ما يريب، سجل المهندس قيمة هذا التردد بعد قياسه في ورقة.
أعاد المهندس قراءة شرح الدائرة في الكتب التي تقول أن الحيوانات الصغيرة تهرب عند سماع الترددات فوق الصوتية، ولكنها لم تذكر أن هناك تردداً يستدعي الفئران للحضور واللعب بسعادة عند قدميه.
بعد حضور الشباب بدأ المهندس في شرح الدائرة، وبين لهم في البداية أن الصوت ينتج من اهتزاز الأجسام، فلو أتينا بمسطرة حديدية، وثبتنا أحد أطرافها، وقمنا بدفع طرفها الثاني ليهتز حراً سنسمع الصوت، التردد هنا معناه عدد اهتزازات المسطرة لأعلى وأسفل في الثانية، وكلما زادت الاهتزازات زاد التردد، وأصبح الصوت أكثر حدة (رفيع)، وإذا زاد التردد أكثر يصبح كالصفير، وفي حالة زيادته عن ذلك قد لا نسمعه، عند ذلك نقول أن التردد فوق صوتي، ويسمونه سوبرسونيك، ونحن لا نسمعه لأن غشاء الطبلة في الأذن البشرية لا يمكنه الاستجابه للاهتزازت السريعة بسبب حجمه الكبير، ولكن طبلة الحيوانات الصغيرة مثل الفئران تكون صغيرة فيمكنها الحركة بسرعة أكبر من الأذن البشرية فتسمع، ولهذا تهرب الفئران من الصوت المزعج التي تصدره الدائرة بينما لا يعبأ بها الإنسان لأنه لا يسمعه، وقد لاحظ السابقون أن الحيوانات تهرب قبل حدوث الزلازل لأنها تسمع اهتزازات القشرة الأرضية فوق الصوتية قبل حدوثها.
وبين لهم المهندس أن تلك المكافحة للفئران برغم نجاحها سلبية، لأنها تطرد العدو و لا تقضي عليه، الفئران الهاربة من عندك سوف تهرب عندي وتسبب لي نفس المشاكل التي كانت تسببها لك، الأفضل القضاء عليها نهائياً لكي نتخلص من شرها، و دائرة التخلص من البعوض هي مكافحة سلبية أيضاً لأن الموجات الفوق صوتية شبيهة بصوت ذكر البعوض، والبعوضة الحامل تكره جداً صوت الذكر بعد التلقيح وهي التي تمتص الدم بشراهة من الإنسان، فتهرب الإناث من المكان، تطرد العدو ولا تقضي عليه، أما المقاومة الايجابية فتحدث مثلاً  في مقاومة دودة القطن، لأن الأنثى الراغبة في التلقيح تصدر نوع من الروائح تسمى فورمونات لتجذب الذكور، فتقوم وحدات المكافحة بوضع هذه الرائحة في مصائد، تجذب الذكور وتقتلها، فلا يتم التلقيح وبالتالي لا تستكمل دورة الحياة، فلا تظهر اليرقة أو الدودة في القطن، وتوجد أيضاً المقاومة الإيجابية في أجهزة صعق البعوض والذباب، حيث ينجذب البعوض والذباب إلى الأشعة فوق البنفسجية الصادرة من مصباح في الجهاز، وعندما تقترب يصعقها جهد كهربي عالي.
سأله أحد الطلاب : هل هناك تطبيق للمقاومة الإيجابية مثيل في حالة مكافحة الجرذان؟ فأجابه المهندس بأنه قد توصل بالصدفة إلى تردد يجعل الفئران تأتي ولا تهرب، وبذلك يمكن تجميعها في مكان ما والتخلص منها بحرقها أو رش مبيدات عليها أو صعقها بالتيار الكهربي، فعلق أحد الطلاب بأن تجميع تلك الفئران في غرفة صعب، ولابد من وجود مكان مفتوح لتتمكن من الوصول إليه بسهولة ويسر، فعلق المهندس : الحل هو جمعها من الطرق والنزول بها إلى الترعة، ورغم أنها تجيد السباحة، فإننا لو أرغمناها على السباحة لمدة طويلة فسوف يتم إجهادها لتغرق وتموت في سكون وهي سعيدة، قتل حضاري على أنغام الموسيقى التي تحبها، ثم ضحك، ثم قال لهم: عموماً دعونا نصنع الأجهزة بحيث تعمل على هذا التردد، وبعدها نقوم بتجربتها على الواقع وبعد نجاحها نفكر في الخطة التي سننفذها.
رأى أحد الطلاب أن تركيب السماعات الثابتة لن يفيد إلا في جلب الفئران من اتجاه واحد، والفئران موجودة في جميع الاتجاهات، واقترح آخر أن يتلافوا المشكلة بصنع عدة أجهزة تعمل على نفس التردد ووضعها في اتجاهات مختلفة، فرد عليه المهندس بأن ذلك قد يحدث شوشرة للفئران، وكأنها تواجه عدة نداءات في نفس الوقت، الأفضل صنع جهاز قوي قدرته عالية، لكي يمكنه الوصول إلى مسافة بعيدة، ونجعل السماعة تدور في كل الاتجاهات، بذلك نضمن أن النداء سيكون واحداً ويجمع كل الفئران القريبة والبعيدة من جميع الاتجاهات، وسنجعل الشكل الخارجي على هيئة هرم والجزء الدوار الذي سيحمل السماعة رأس هذا الهرم، وهذا رائع، لأنه يربطنا بماضينا الحضاري.
قام الشباب بطباعة المنشورات وتوزيعها على الناس على باب المسجد بعد الخروج من الصلاة، كما ثبتوا بعض الملصقات في الأماكن المهمة في القرية ليعرف الناس ما يفعلون.
وجاءت اللحظة الحاسمة، الناس تنتظر في المسجد، سيصلي معهم الشباب صلاة العصر ثم ينطلقون، راجع الجميع لآخر مرة دور كل واحد منهم.
تقدم المهندس وهو يرتدي بدلة من البلاستيك السميك، وحذاء بلاستيكي برقبة طويلة ويضع الجهاز فوق رأسه، والسماعة على شكل هرم تدور في جميع الاتجاهات ببطء، و يضع على أذنه سدادات تمنع عنه الأصوات، ويرتدي نظارة سوداء، يبدو وكأنه رائد فضاء، ويصاحبه بعض الشباب، انطلق المهندس يسير في شوارع القرية ببطء والفئران تخرج من البيوت وتسير وراءه في خطوط مستقيمة بخطوات منتظمة وكأنها جنود يسيرون في عرض عسكري، ويستمر في المسير بمحاذاة الحقول، والغريب أن الفئران لا تخاف من الناس ولا تهرب منهم بل تسير مستسلمة وكأنها منومة مغناطيسياً وعند مصلية عم جابر الشحري هبط المهندس إلى الماء وسط التصفيق الحاد من أهل القرية، يلقي الشباب إليه بحبلان، حبل من الأمام وحبل من الخلف، تحت الذراعين، ثم يتم برمهما ويمسك كل شاب منهم بطرف على جانبي الترعة ثم يبدأ المهندس في السير فيها والمياه تصل لصدره، والفئران تنزل خلفه وتعوم بجانبه ومن أمامه، إنها تكاد تلتصق به، تأتي إليه من كل حدب وصوب، من قريتهم ومن القرى التي حولهم، وعربة الاسعاف والمطافئ تسير بمحاذاة المهندس للتدخل عند الخطر، وشباب القرية وابن العمدة معهم يشجعهم ويشد من أزرهم، عدد الفئران يزيد ويعتلي بعضهم البعض، ويبدأ بعضهم بالغرق، ومن يحاول الخروج إلى الشاطئ يصطاده الشاب، يملأون بها الأجولة البلاستيك التي أعدوها لذلك ليتم حرقها ودفنها فيما بعد، يزيد عدد الفئران و يتدفقون كالسيل نحو الترعة، لقد ارتفع منسوب المياه بسببهم، حتى وصلت المياه إلى ذقن المهندس، وجه الشباب الأهالي لمساعدتهم في سحب الفئران الميتة من الترعة حتى لا تهبط إلى القاع ويرتفع مستوى سطح الماء، لأنها قد تسبب مشكلة للمهندس والفريق وتمنعه من استكمال المهمة، الشبك المعدني الذي نصبه الشباب يصيد المئات من الفئران، يتم سحبها إلى الشاطئ بعد نفوقها، وضرب الحي منها، فتموت على الفور لأنها منهكة من السباحة الطويلة، والفئران الغرقى تعوم على سطح المياه بعد انتفاخها، فيسحبها الشباب إلى الشاطئ ويضعوها في الأجولة البلاستيك.
الشباب يدفعون المهندس إلى الأعلى بالحبال حتى لا تصل المياه إلى فمه، وهو يبذل جهداً كبيراً في السير في وسط الترعة، وهو في دنيا أخرى يسير إلى الأمام و لا يلتفت و لا يتكلم و لا يسمع أحد، وكأنه إنسان من حديد مثل الذي نراه في أفلام التلفزيون الموصلة بالأطباق الفضائية.
الله أكبر، ماذا يحدث ؟؟ مشهد مضحك، القطط تأتي على مسافة من الفئران تسبح في صعوبة، يفصل بينها وبين الفئران مسافة كبيرة، وبعد فترة وتبدأ صغارها بالغرق، ردد الشباب في دهشة : أخبرنا المهندس أن هذا الجهاز للفئران فقط وليس للقطط، في المستقبل سنصنع جهازاً لكل نوع من الحيوانات، ذلك أفضل فإذا أردنا التخلص من القطط قمنا بتشغيل جهاز القطط، وإذا أردنا التخلص من الكلاب قمنا بتشغيل جهاز الكلاب، وإذا رغبنا في التخلص منها جميعاً دفعة واحدة، نستخدم الجهاز الذي معنا.
كانت أسراب الكلاب تأتي بعد القطط بمسافة بعيدة، وهي تنبح بصوت عالي، تتبعها صغارها، الترعة أصبحت حديقة حيوان، هل نحن في زمن الجنون، وفجأة بدأت السحالي الصغيرة والأبراص في التجمع بعد الكلاب لتنزل إلى المياه رافعة رأسها إلى الأعلى، لماذا تستجيب الفئران فوراً، وتتأخر عنها القطط والكلاب ثم السحالي والأبراص، لا أحد يعرف.
علق بعض الفلاحين في سخرية وهم يرون هذا العجب : لو أن هذا الجهاز العظيم يمكنه أن يسحب نساءنا لأراحنا الله منهم وتزوجنا من جديد يا عمدة، فرد عليهم : لو سحب النساء سيسحب البنات ولن تجد بنتاً تتزوجها يا ذكي، نشكر الله أنهن صابرات علينا.
المنظر أصبح مثيراً، الشباب يصورون الصراصير وهي تتجمع وتهبط إلى الماء، وأقسم أحدهم أن التلفزيون لو يعرف ماذا يحدث لقام بتصوير تلك المعجزة.
وحدثت المفاجئة الكبرى؛ الدجاج الكبير والصغير والبط والأوز والرومي تنزل إلى الترعة وتسير خلف الركب، حاول الفلاحون منع الدجاج لأنه لا يجيد السباحة مثل البط والأوز والرومي، ولكن يبدو أن الدجاج توحش، فهو ينقرهم ويفر منهم إلى الترعة.
أرسل العمدة أحد الشباب إلى المهندس لكي يوقف ذلك الجهاز اللعين عن العمل، قائلاً : لا نعرف إلى أين يأخذنا هذا الجهاز، أخذ الأهالي يشيرون إليه وينادون عليه وهو لا يسمع و لا يرى أحداً، يسير ولا شئ غير ذلك وكأنه آلة لا تسمع ولا ترى.
القطط تلحق بالفئران وتسير فوقها فتدفعها إلى الأسفل، والكلاب لحقت بالركب وتركب على القطط، والدجاج والبط والأرانب دخلوا إلى المعركة والكل يغرق، والمهندس مازال يمشي ببطء، كل الحيوانات تتجه نحوه حتى الحمام يطير فوقه، والشئ المثير للضحك أن الماعز والخراف انضمت للمسيرة ولكن من فضل الله فضلت المسير على الجانبين ولم تنزل إلى الماء، والأهالي تصرخ لإيقاف المهندس لأنهم لم يعودوا يستطيعون متابعته، فلقد كلوا من السير الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات، وبينهم وبينه حيوانات كثيرة على البر وفي الماء وفي السماء، وهو يسير ببطء ولم يتعب ولم يكل، حتى أن سيارة الاسعاف والاطفاء توقفت عن المتابعة، وعادت أدراجها إلى المدينة، والأهالي في حالة ثورة، ويلقون عليه بالحجارة من بعيد لعله يتوقف، وهو لا يحس بشئ.
أذن المؤذن لصلاة المغرب، وهذا المهندس ما زال مستمراً، لقد قطع مسافة كبيرة قي الماء، ومر بأكثر من أربع قرى، وحشد وراءه الآلاف من الحيوانات، غرق معظمها وجثثهم تطفو على صفحة المياه، صاح أحدهم في غضب : إنها خسارة كبيرة يا عمدة الدجاج والحمام والبط والوز والرومي والأرانب، جثثهم تملأ الترعة، ولم يعد أحد يهتم بجمعها لكثرتها، صرخ العمدة : لعنة الله على عقلي الذي وافق هؤلاء المجانين على تلك المصيبة التي حلت بنا، إنها طامة كبرى، رحماك يارب، حسناً ... لقد توقف أخيراً، والتفت إلى الخلف، ها هو يلعب في مفتاح في الجهاز الذي فوق رأسه، الحيوانات تفزع وتحاول الهرب فيغرق الباقي منها بعضه بعضا، لم تعد هناك حركة في الماء، أرواحهم ذهبت إلى بارئها، والماعز والخراف فرت إلى الحقول المجاورة على غير هدى، فلقد نسيت أماكنها وبيوتها، والناس تجري وراءها والكل يدعي أنها ملكه.
المهندس يقف وينحي للجموع كأنه ممثل قدير على المسرح يحيي جمهوره، إنه يزيل الجهاز من فوق رأسه، ويرفع السدادات من أذنيه، ويخلع النظارة التي يرتديها، ويلقي القفازين، ويخرج إلى الشاطئ فيستقبله الفلاحين بالأحذية والعصي وهو يحاول الهرب منهم وهم مصرون على تأديبه.
أمر العمدة مجموعة من الحراس بسرعة الوصول إلى المهندس وإحضاره في الحال قبل أن يلحقه سوء، وأن يقوموا بالتحفظ على المجموعة كلها ومعهم ابنه الذي شجعهم على هذا العبث، ليعاقبهم بنفسه على المصيبة التي تسببوا فيها، وأمرهم بالنفخ في الصافرة حتى يفسح الناس لهم الطريق، و أن يأخذوا معهم بعض أبناءهم حتى يخلصوهم من أيدي الأهالي قبل فوات الأوان.
أدخل العمدة كل المجموعة إلى غرفة السجن، جلس المهندس وملابسه ممزقة وعليها بعض آثار الدماء، ومعه الشباب الذين كان يدربهم، مغبرين وملابسهم ممزقة، يستند أحدهم على الحائط، ويجلس بعضهم على الأرض، وبينهم ابن العمدة يحاول أن يسري عنهم ويلاطفهم، بينما يجلس العمدة مع بعض أهل القرية في الغرفة المجاورة واضعين أيديهم على رؤسهم، حاول ابن العمدة التسرية عن الشباب في السجن فقال لهم : لا تيأسوا، لقد أبليتم بلاءً حسناً، لقد خططتم ونفذتم بشكل رائع، وما حدث لم يكن متوقعاً، لقد اتخذتم كل اسباب النجاح ولم تغفلوا جانباً واحداً، تحريتم كل عوامل الجودة، ولكن كما قال الشاعر : تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
فرد أحدهم في أسى : لم نكن نتصور أن يعتدي علينا أهلنا وأقرب الناس إلينا بتلك الوحشية والهمجية، نحن نفعل ما بوسعنا لكي نخدمهم، فرد عليه آخر : ولكن لا يجب أن ننسى أننا تسببنا في خسارتهم ثروتهم الداجنة التي يتعيشون منها، وكلنا يعرف ارتفاع أسعار اللحوم، كانوا يسترزقون من بيع الدجاج والبيض ويطعمون عائلاتهم، يجب أن نعذرهم، الأهم في نظري، أن نعرف سبب ما حدث، فرد عليهم المهندس : أعتقد أنه حدث انحراف في التردد، ربما كان بسبب سخونة المكونات الالكترونية، فلقد أتت القطط بعد فترة، وبعد فترة جاءت الكلاب، وبعدها جاء الدجاج والبط والأوز والرومي كما أخبروني وهم يضربونني بكل شدة، فرد عليه ابن العمدة وهو يضحك : وأنت يا مهندس، أغلقت أذنيك وعينيك ولم تعد تسمع أو ترى ونحن ننادي عليك بالتوقف لإنقاذ الدجاج والبط وأنت تسير في وادي آخر كأنك روبوت مبرمج، ينظر إليه المهندس معاتباً ثم يضحك هو الآخر فيضج الجميع بالضحك، فيقوم أحد الشباب يقلد المهندس وهو يمشي كأنه آلة فتتعالى الضحكات.
دخل الحارس وأخبر العمدة أن مأمور المركز ومعه مجموعة رسمية في الطريق إليه، توجس العمدة من الأمر، وظن أن أحد الرجال وشى به وقدم بلاغاً للمركز، دخل المأمور وأخبر العمدة أن أحد الشباب رفع فيديو على موقع اليوتيوب وشرح ما حدث، فوجد استجابة رائعة من الناس، فتم تكليف الحكومة بالتعرف على هؤلاء الشباب الذين قاموا بتلك التجربة الرائعة، والمطلوب تسجيل ما حدث ومن قاموا به بالتفصيل في التلفزيون ليكونوا قدوة لغيرهم، إنهم مخترعون ومجتهدون، وحاولوا مساعدة القرية في التخلص من مشاكلها، وربما وقعوا في بعض الأخطاء وستساعدهم الدولة في تصحيحها، والحكومة ستدفع للفلاحين تعويضات عما أصابهم، وستشرف على نادي العلوم وتنفق عليه، وسننشر تلك الأندية في كل قرية في مصر، عسى أن نجد فيهم شباباً يرفع الرأس كشبابكم.
قال العمدة لحارسه : أخرج الشباب من السجن وأخبرهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويغتسلوا ويرتدوا ملابس لائقة ويضعوا شيئاً من العطر ليكونوا هنا بعد صلاة العصر للتسجيل في التلفزيون، لقد خجلنا منهم بعد أن أسأنا إليهم، والله لقد رفعوا رؤوسنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رواية جريمة عالم للدكتورة أميمة خفاجي بين الخيال العلمي وأدب الجريمة

قرأت لك: رواية جريمة عالم للدكتورة أميمة خفاجي بين الخيال العلمي وأدب الجريمة 1. الحكاية: تحكي الرواية عن عالم في الهندسة الوراثي...